ربى شمشوم... طيران في «ريشة» | حوار

ربى شمشموم

 

يشعر المستمع إلى أغانيها، ومنذ ألبومها الأوّل «شامات»، بأنّ الأغنية تتجاوز كونها نصًّا ولحنًا. أغنية الفنّانة ربى شمشوم  أشبه بطريق؛ بباب، ثمّ ممرّ، ثمّ مكان خارج المكان الواقعيّ، تؤثّثه بالخيال والصور البعيدة الّتي تبدو قادمة من تهويدات في قصّة تُحْكى قبل النوم. ربى، الّتي تكتب وتلحّن وتغنّي ما يختلج داخل هذا العالم الفانتازيّ، فتشاركنا إيّاه، تُطْلِق هذه الأيّام ألبومها الثاني «ريشة».

يطغى على أغاني الألبوم فعل لا يبتعد كثيرًا عن عالمها؛ فعل الطيران والتحليق تتشارك فيه الطبيعة والإنسان، معجونَين بأفكارها الحميمة تجاه العالم والعلائق والمشاعر. يدفعنا نحو هذا العالم الصوت الّذي تُحْضِرُه ربى، فنستمع في الألبوم إلى خليط من الآلات الحيّة وصوت «الدابل باص» و«الهانغ درَم» والأصوات الإلكترونيّة.

في هذه المقابلة الّتي أجرياها في فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مع ربى، نتحدّث عن «ريشة» وعن تجربتها الموسيقيّة الّتي تلاصق تجربتها الإنسانيّة، والّتي تبدو معها انعكاسًا غامضًا مرّة وحاسرًا عن نفسها مرّة أخرى؛ وهو ما يجعل منتوجها الفنّيّ أقرب إلى أن يكون سيرة؛ سيرة شخصيّة وسيرة خياليّة تتكوّن داخلها، وتمنحها إيّاها على شكل قطعة صوتيّة وبصريّة وحسّيّة.

 

فُسْحَة: كُتِبَ في بيان إطلاق ألبوم «ريشة» أنّه رسالة حبّ إلى الأنوثة، وإلى التواصل البشريّ مع الطبيعة ومع الذات. ما هو بالنسبة إليك شخصيًّا، وأيّ تجربة أنتجته؟

ربى: بدأت أكتب أغاني الألبوم منذ ثلاث سنوات، خلال إقامتي في مدينة دبلن الإيرلنديّة. «ريشة» كانت الأغنية الأولى. في ذلك الحين كنت أعمل على ألبومي السابق، لكنّي لم أدرج هذه الأغنية فيه. شعرت بأنّها بمنزلة طريق جديد سأسلكها. تتحدّث الأغنية عن ريشة تترك الطير وتريد التحليق في السماء، لتبحث عن ألوان أخرى. تلك الصورة كانت إلهامًا لفكرة البحث في داخلنا حتّى نجد صوتًا جديدًا؛ فكانت الأغنية اسم الألبوم وطريقه أيضًا. ثمّ كتبت أغنية «سنونو»، دون أن أقصد تقاطعات الثيمات المرتبطة بالطيران. شرعت في البحث عن طائر السنونو والقراءة عنه؛ طائر يحبّ الأماكن الدافئة، بينما أعيش في أبرد مدن العالم. أمّا أغنية «منارة» فبدأت بكتابتها قبل سنتين، وقد استغرقت وقتًا حتّى تبلورت واتّخذت نسختها النهائيّة. وكانت المرّة الأولى الّتي أغنّي فيها كلمات الشاعرة فرح شاما. ثمّ - وبتجميع الأغاني الّتي عملت عليها - شعرت بأنّ ثمّة صورة تتّضح وتشكّل مشهدًا من عصفور وريشة وضوء ومنارة. وبعد انتقالي إلى لندن، تعرّفت إلى منتجة، وقرّرنا العمل معًا. حضّرت المسوّدات ثمّ سجّلنا الأغاني، قبل أن تبدأ فترة الحجر مع جائحة كورونا، الّتي اضطررنا معها إلى أن نُكمل العمل عن بُعد.

 

فُسْحَة: وهل وجدت الصوت الجديد الّذي كنت تبحثين عنه؟

ربى: في أغنيتين على الأقلّ، ثمّة مفردات مثل "تركت" و"هجرت". أنا، بصفة موسيقيّة، كنت في حاجة إلى أن أترك شيئًا حتّى أجد إلهامًا جديدًا لنفسي؛ فأكتب نصوصًا أكثر إثارة إليّ. شعرت بأنّي موجودة في ماء آسن، وعليّ أن أجدّد شيئًا، أصنع شيئًا جديدًا؛ كأن أبحث عن إلهام في صور أو معانٍ أبعد من المألوفة، مثلًا، كيف أكتب رسالة حبّ لطفل صغير؟ جعلت الإلهام محفّزًا لكتابة جديدة تختلف عن تلك الّتي اعتدتها.  

 

فُسْحَة: في تعريفك للألبوم، ذكرتِ أنّه يحوي بُعدًا نسويًّا؛ كيف وبِمَ يتجسّد ذلك؟

ربى: ربّما لأنّ ذلك هو الشيء الطبيعيّ الّذي بإمكاني فعله. أُسْأَل كثيرًا لماذا لا أكتب أغاني سياسيّة ووطنيّة، وأظنّ أنّنا قد نفعل فعلًا نسويًّا إن نحن نظرنا إلى دواخلنا، وطرحنا على أنفسنا أسئلة حول ما يحدث معنا وما يهمّنا في هذه الدنيا. أشعر بأنّي تواصلت مع هذا السؤال في الألبوم من الناحية الموسيقيّة أيضًا، فإن أنصتِّ إلى الهرمونيا فستسمعين صوت قبيلة من النساء، على الرغم من أنّه توظيف لصوتي وحدي. من المهمّ إليّ أن يُسمع هذا الجانب الأنثويّ. ثمّ إنّي حين أقول أنثويًّا، لا أعني المرأة فحسب؛ ففي أغنية «سنونو» أنا أتحدّث عن أولئك الّذين يُجْبَرون على ألّا يكونوا أنفسهم بسبب المجتمع. أقول فيها: "أنا مش ليلى، أنا الديب". وأقصد أنّ الآخر يريد أن يراني بصورة ما، ولن يستطيع أبدًا أن يرى صورتي الحقيقيّة، بل تلك الّتي يريدها فحسب. كذلك في أغنية «ريشة»، ثمّة تلميح للمثليّة الجنسيّة، ولحقيقة أنّ الإنسان لا يمكن أن يكون إمّا في الأبيض وإمّا في الأسود. ثمّة أشياء أخرى قد لا نراها خلف العنان. الأغنية تحمل ألوانًا كثيرة من حيث النصّ والصور البصريّة. بإمكانك تخيّل عالم مليء بالألوان، يتجاوز الأبيض والأسود.

 

فُسْحَة: في معظم أغانيك، نسمع عالمًا من التهويدات والمونولوجات الداخليّة المتّكئة على الخيال والطبيعة؛ هل تعتقدين أنّ هذا العالم يستمرّ في الحياة في ألبومك الجديد؟ وما الجديد فيه؟

ربى: في هذا الألبوم، قرّرت أنّي أرغب في أن أُمتّع نفسي موسيقيًّا. ربّما جاء الألبوم الأوّل «شامات» بعد دراستي للموسيقى؛ هكذا يصنعون الموسيقى، هكذا على بنيتها أن تكون؛ أن يكون الصوت عند نفس المسافة حيث صوت الآلات. لكن في هذا الألبوم، رأيت أنّ على صوتي أن يكون الأكثر حضورًا. لا يدعو ذلك إلى الخجل؛ فأنا أصنع شيئًا خاصًّا بي، يقول ما أريد قوله، وصوتي فيه هو الآلة الأهمّ. لم أتردّد في أن أضع أيّ تعبير موسيقيّ يجيء بواسطة الصوت. وأخرجت كلّ ما أرغب في قوله من ناحية صوتيّة. إضافة إلى ذلك، فأنا تعلّمت أن أُنْشِئ الموسيقى بواسطة الكمبيوتر، فاكتشفت أصواتًا إلكترونيّة. على الرغم من أنّها لم تُعْطَ وزنًا كبيرًا في الألبوم، إلّا أنّها تضيف طبقات خاصّة على الصوت، وتمنح الموسيقى الموضوعة حركة جميلة، فضائيّة، سمائيّة، وأنا أميل إلى هذا الصوت كثيرًا. حتّى حين أسمع الموسيقى، أشعر بأنّي أحلّق معها؛ ولذلك أحبّ أن أصنع موسيقى تجعلني أيضًا أرغب في التحليق. ثمّ إنّني أدخلت طريقة غناء جديدة، لا أدري إن كان بإمكاني أن أسمّيها «راب»، لكنّي سمحت لنفسي أن أتناول قطعة من النصّ، وأن أقولها على شكل كلام محكيّ.

 

فُسْحَة: في الألبوم السابق، وكذلك في الجديد، عملت بنفسك على الكتابة والتلحين، عدا أغنية واحدة كتبتها فرح شاما. هل كان أيضًا قرارًا فنّيًّا مُسبقًا؟

ربى: إن تحدّثنا عن الناحية الموسيقيّة، فأنا بالطبع لا أغلق الباب أمام إمكانات أخرى. قد أعمل في المستقبل مع آخرين على اللحن أو التوزيع، لكن حتّى هذه اللحظة، لطالما شعرت بأنّ الأغنية أشبه بكنز شخصيّ، وحين تبدأ بالتبلور أشعر بأنّها تخصّني، وأحسّ بمزيّة معيّنة يتمتّع بها ذلك الشيء الّذي خرج كلّ تفصيل منه منّي. إلّا أنّي أدرك ضرورة التجريب في المستقبل، وأن يخرج المرء من المساحات الّتي يعتادها. أستطيع أن أقول إنّي - حتّى اللحظة - لم أشعر بأنّي انتهيت من إخراج ما عندي حتّى أجرّب طبيعة عمل جديدة. أمّا من حيث النصوص، فأنا شديدة النقديّة تجاه نفسي؛ أكتب وأمرّر النصّ في تجارب وقراءات عدّة من قِبَل زوجي وأشخاص آخرين لأستشيرهم. كما أنّني أتساءل كثيرًا إن كنت أكرّر نفسي أم أنّي أجلب شيئًا جديدًا. ربّما أكرّر مشاعر معيّنة، وهذا جزء منّي لا يمكنني أن أسلخه عن نفسي. لكن من حيث الكلمات والثيمات المطروحة، فأشعر حيالها بأنّي في فقاعة خاصّتي، أتوسّع داخلها، وأتطوّر داخلها، وقد تنفجر من تلقاء نفسها.

 

فُسْحَة: كيف تنظرين إلى ألبومك السابق؟ وما الأمور الّتي عمدت إلى تطويرها، في قدراتك وفي عمليّة الإنتاج، حتّى تقدّمي شيئًا مختلفًا هذه المرّة؟

ربى: علّمت نفسي استخدام الكمبيوتر في التأليف الموسيقيّ، ذلك كان عاملًا مجدّدًا بالنسبة إليّ؛ فالتلحين باستخدام الكمبيوتر مختلف حقًّا، لا سيّما مع القطع الموسيقيّة الّتي لا يمكن معها استخدام البيانو في التلحين. في الألبوم السابق، عملت مع منتج، لكن طبيعة العمل كانت مختلفة؛ فقد سجّلنا الأغاني كما هي في الأستوديو. أمّا منتجة هذا الألبوم، فكان ثمّة ديناميكيّة عمل مختلفة معها، ربّما لأنّها امرأة، تحوّل العمل إلى رحلة وعلاقة قريبة. وقد كانت أيضًا مشرفة على عمليّة صناعة الأغاني، أشعرني ذلك كم أنّي أفتقد أن يقودني أحد بيده، ويريني كيف يمكن الأشياء أن تكون! كانت مهتمّة جدًّا، مؤمنة بالمشروع؛ وهذا أعطاني دفعة معنويّة كبيرة. لأوّل مرّة يطلب منّي أحدهم أن أحلم، أن أفعل ما أرغب في فعله. نحن اعتدنا على قول: "على قدّ فراشك مدّ إجريك". رحلة هذا الألبوم كانت غنيّة، من حيث طريقة التفكير في الموسيقى، مقابل عالم مواقع التواصل الّذي يشعرنا بأنّ علينا أن نكون أشخاصًا آخرين، في سبيل الترويج والسوق وصناعة المتابعين، إلّا أنّ طريق العمل على الألبوم ذكّرتني مَن أنا حقًّا.

 

فُسْحَة: كيف إقامتك، على المستوى الفنّيّ، خارج العالم العربيّ؛ في لندن وإيرلندا؟ وكيف تصفين اندماجك في المشهد الموسيقيّ هناك؟ هل أنت مضطرّة إلى تقديم أغانٍ باللغة الإنجليزيّة؟

ربى: حاليًّا أنا لا أغنّي باللغة الإنجليزيّة. احتوى الألبوم الأوّل على أغنيتين بالإنجليزيّة. حين أنظر إلى الوراء، أشعر بأنّه كان من الأفضل لو لم تكونا جزءًا من الألبوم. لا أختبر نفس الشعور حين أكتب بالإنجليزيّة. المسألة ليست سهلة هنا ولا حتّى في البلاد؛ فأنا، حتّى بتقديمي أغاني باللغة العربيّة، وضعت نفسي في نوع صعب. حاولت المنتجة أن تقدّم الألبوم لموزّعي موسيقى حتّى يتبنّوا الألبوم لكنّهم وضعوا «الموسيقى العربيّة» تحت خانة «الموسيقى العالميّة»، وهو أمر غير عادل بتاتًا؛ لأنّه يُنتج أكثر فأكثر موسيقيّين يغنّون بالإنجليزيّة فقط؛ الأمر الّذي سيعمل على قتل التنوّع، وسنغنّي كلّنا بلغة واحدة. من جهة أخرى، أنا لا أقدّم الموسيقى «السائدة» في العالم العربيّ، ووجودي في الخارج منذ عام 2012 يجعلني أفكّر في كيفيّة إيجاد الجمهور. أنا أعرف أنّ ثمّة أشخاصًا يحبّون سماع هذه الموسيقى، لكن السؤال في إيجادهم.

 

فُسْحَة: كيف أثّرت بيئتك الأولى في اتّجاهاتك الفنّيّة؟ وهل تذكرين منعطفاتٍ معيّنة حوّلت تجاربك وشخصيّتك؟

ربى: نشأت في بيت قرّر فيه أبي وأمّي، للأسف، أن ينفصلا؛ فلم أمرّ بطفولة سهلة. أثّر ذلك فيّ، وجعلني ألجأ إلى عالم الفنتازيا والعالم الورديّ، فقد كنت في حاجته. أقول دائمًا إنّ الفقاعات الّتي نعيشها لا تأتي من فراغ. كانت طفولتي بمنزلة غوص في الكتب والموسيقى؛ فقد كانت المساحة الّتي أهرب إليها كما يفعل الكثير من المراهقين. وحين بدأت الغناء، سمحت لنفسي بالغوص أكثر فيها. وجدت طرف الخيط ذاك، وقلت إنّه ينبغي لي أن أبحث أكثر كي أرى ماذا سينتج عن هذا البحث. لم يكن بيتنا بيتًا موسيقيًّا، وربّما كان ذلك سببًا في أنّني تأخّرت في اتّخاذ الموسيقى طريقًا؛ فبعد دراستي للبكالوريوس بدأت البحث، وعرفت أنّ هذا هو الشيء الّذي يجعلني سعيدة. كنت طفلة خجولة، وكان من الصعب عليّ أن أتحدّث أمام الناس وأعبّر عن نفسي. لذلك؛ فاختياري هذا الطريق أمر غريب، اخترت أن أغنّي، والغناء أصعب من العزف على آلة موسيقيّة. يُوضع الصوت مكشوفًا دون أن يختبئ وراء الآلة. أشعر بأنّي هذان الطرفان، شخص خجول يشكّل خجله حافزًا له من أجل أن يكسره.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.